الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، والصلاة والسلام على خير
البريات، وعلى الآل والصحب والتابعين أزكى التحيات، أما بعد:
فإن الله تعالى "جعل بعض الأيام والليالي أفضل من بعض، وما من هذه
المواسم الفاضلة موسم إلا ولله تعالى فيه وظيفة من وظائف طاعته، ولله
فيه لطيفة من لطائف نفحاته، فالسعيد من اغتنم مواسم الشهور والأيام
والساعات، وتقرب فيها إلى مولاه بما فيها من وظائف الطاعات، فعسى أن
تصيبه نفحة من تلك النفحات، فيسعد فيها سعادة يأمن بعدها من النار وما
فيها من اللفحات".(1) حتى إذا جاء يوم القيامة تفاوتت بينهم الدرجات
وإن كانوا من أهل الجنات، فكانوا -إجمالاً- على قسمين ذكرهما الإمام
ابن القيم رحمه الله عند قوله تعالى:
{إِنَّ المُصَّدِّقينَ
وَالمُصَّدِّقٰتِ وَأَقرَضُوا اللَّهَ قَرضًا حَسَنًا يُضٰعَفُ لَهُم
وَلَهُم أَجرٌ كَريمٌ * وَالَّذينَ ءامَنوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ
أُولٰئِكَ هُمُ الصِّدّيقونَ ۖ وَالشُّهَداءُ عِندَ رَبِّهِم لَهُم
أَجرُهُم وَنورُهُم ۖ وَالَّذينَ كَفَروا وَكَذَّبوا بِـٔايٰتِنا
أُولٰئِكَ أَصحٰبُ الجَحيمِ}[الحديد:17-18]، قال: "وعمال الآخرة على قسمين، منهم من
يعمل على الأجر والثواب، ومنهم من يعمل على المنزلة والدرجة، فهو
ينافس غيره في الوسيلة والمنزلة عند الله تعالى، ويسابق إلى القرب
منه".(2)
وإن ثمت عملاً صالحاً يحصل لمن انشرح صدره أن يسابق وينافس به على
المنازل والدرجات العلا، ألا وهو كما عبر عنه ابن رجب رحمه الله بـ
"الخلوة المشروعة لهذه الأمة وهي الاعتكاف، خصوصاً في شهر رمضان،
خصوصاً في العشر الأواخر منه كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعله؛
فالمعتكف قد حبس نفسه على طاعة الله وذكره، وقطع عن نفسه كل شاغل
يشغله، وعكف بقلبه وقالبه على ربه وما يقربه منه، فما بقي له همٌ سوى
الله وما يرضيه عنه .. فمعنى الاعتكاف وحقيقته: قطع العلائق عن
الخلائق للاتصال بخدمة الخالق".(3)
"وليست العزلة المشروعة لتربية النفس وتهذيبها مقصورة على سنة
الاعتكاف فحسب؛ بل كان السلف رضي الله عنهم يحثون السالك على اختلاس
أوقات يخلو فيها بنفسه للذكر أو الفكر أو المحاسبة أو غيرها.
قال عمر رضي الله عنه: "خذوا بحظكم من العزلة" وقال مسروق رحمه الله:
"إن المرء لحقيق أن يكون له مجالس يخلو فيها يتذكر ذنوبه، فيستغفر
منها". (4)
ويوصينا ابن الجوزي رحمه الله بالعزلة فيقول: "فيا للعزلة ما ألذها!
فلو لم يكن في العزلة إلا التفكير في زاد الرحيل، والسلامة من شر
المخالطة كفى" ويقول: "ولأن أنفع نفسي وحدي خير لي من أنفع غيري
وأتضرر.. الصبر الصبر على ما توجبه العزلة، فإنه إن انفردْتَ بمولاك
فتح لك باب معرفته".(5) إن أهم ما يُعنى به الموفق لطاعة مولاه هو
إصلاح تلك المضغة التي إذا صلحت صلح الجسد كله، وفي الصوم والاعتكاف
من الإصلاح الشيء الكثير.
ولنقرأ الآن ما فتح الله به على طبيب القلوب ابن القيم رحمه الله حيث
يقول: "لما كان صلاح القلب واستقامته على طريق سيره إلى الله تعالى
متوقفاً على جمعيته على الله تعالى، وكان فضول الطعام والشراب وفضول
المخالطة، وفضول الكلام، وفضول المنام مما يزيده شعثاً، ويشتته في كل
وادٍ، ويقطعه عن سيره إلى الله تعالى، أو يضعفه أو يعوّقه ويوقفه
،اقتضت رحمة العزيز الرحيم بعباده أن شرع لهم من الصوم ما يذهب فضول
الطعام والشراب.. وشرع لهم الاعتكاف الذي مقصوده وروحه عكوف القلب على
الله تعالى.. فيصير أنسه بالله بدلاً عن أنسه بالخلق، فيُعِدُّه بذلك
لأنسه به يوم الوحشة في القبور، حين لا أنيس له ولا ما يفرح به سواه،
فهذا مقصود الاعتكاف الأعظم. ولما كان هذا المقصود إنما يتم مع الصوم،
شرع لهم الاعتكاف في أفضل أيام الصوم، وهو الثلث الأخير من
رمضان".(6)
إن الاعتكاف سنة فاضلة في زمن فاضل، وقد صار سنة مهجورة لا تكاد تعرف
في بعض البلاد، فكان إحياؤه آكد وأعظم أجراً؛ لأن السنة كلما هجرت كان
الأجر في إحيائها أعظم، ونظير ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لما
أخّر العشاء إلى ثلث الليل قال للصحابة:
«ما ينتظرها أحد من أهل
الأرض غيركم».(7) قال ابن رجب:
"وفي هذا إشارة إلى فضيلة التفرد بذكر الله في وقت من الأوقات لا يوجد
فيه ذاكر له".(