هل الحج يكفر الذنوب المقترفة في حق العباد؟
نرى بعض الظلمة يسافرون للحج أو العمرة بنية تكفير الذنب الذي اقترفوه في
حق الناس دون رد هذا الحق الذي عليهم ظناً منهم أن الله سيغفر لهم كل
شيء فهل الحج والعمرة كفارة من حقوق الناس ومظالم العباد ومسقط لها؟
وهل يلزم رد الحقوق لأصحابها قبل أداء الحج أو العمرة؟
بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد..
فإن الحج والعمرة من مكفرات الذنوب والمعاصي، وقد وردت بعض النصوص
تؤكد ذلك ، ومنها قول رسول الله صلى الله عليه وسلم : "تابعوا
بين الحج والعمرة فإنهما ينفيان الفقر والذنوب كما ينفي الكير خبث الحديد والذهب والفضة" ، وحديث : "... والعمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما"، وقال صلى الله عليه وسلم "من حج فلم يرفث
ولم يفسق رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه" .
لكن تكفير هذه الذنوب يتعلق فقط بالذنوب التي بين الإنسان وربه ، أما حقوق
العباد فإن ذمة العبد لا تبرأ إلا بردها لهم أو عفوهم عنه. والواجب
على أي مسلم إذا أراد الحج أو العمرة أن يبرئ ذمته أولاً من
حقوق العباد بأن يخلص نفسه وينقيها مما وجب عليه شرعاً
لعباد الله، فهذا أدعى لقبول حجه أو عمرته فضلا عن قبول توبته.
وإليك تفصيل ذلك في فتوى الدكتور حسام الدين عفانة أستاذ الفقه وأصوله بجامعة القدس:
يقول الله تعالى
وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا
فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ) سورة البقرة الآية 188.
ويقول الله تعالى
يَأيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ) سورة المائدة الآية 1 . وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال
لتؤدن الحقوق إلى أهلها يوم القيامة حتى يقاد للشاة الجلحاء من الشاة القرناء ) رواه مسلم.
وعنه أيضاً أن النبي صلى الله عليه وسلم قال
من أخذ أموال الناس يريد أداءها أدى الله عنه ومن أخذ أموال الناس يريد إتلافها أتلفه الله ) رواه البخاري.
وعنه أيضاً أن النبي صلى الله عليه وسلم قال
أتدرون من المفلس ، قالوا : المفلس فينا من
لا درهم له ولا متاع فقال : المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام
وزكاة ويأتي وقد شتم هذا وقذف هذا وأكل مال هذا وسفك دم هذا وضرب هذا ،
فيعطى هذا من حسناته وهذا من حسناته فإذا فنيت حسناته قبل أن يقضى
ما عليه أخذ من خطاياهم فطرحت عليه ثم طرح في النار ) رواه مسلم .
وغير ذلك من الأحاديث التي يؤخذ منها أن على المسلم أن يبرئ ذمته من حقوق العباد.
قال الإمام النووي : إذا استقر عزمه لسفر حج أو غزو أو غيرهما فينبغي أن يبدأ بالتوبة
من جميع المعاصي والمكروهات ويخرج من مظالم الخلق ويقضي ما أمكنه من
ديونهم ويرد الودائع ويستحل كل من بينه وبينه معاملة في شيء أو مصاحبة
ويكتب وصيته ويشهد عليه بها ويوكل من يقضي ما لم يتمكن من قضائه
من ديون ويترك لأهله ومن يلزمه نفقته نفقتهم إلى حين رجوعه . المجموع 4/385.
ويقول د.حسام عفانة أيضا في موضع آخر حول نفس المسألة:
ينبغي أن يعلم أن على من أراد الحج المبادرة إلى التوبة النصوح من
جميع الذنوب والخطايا لقوله تعالى
وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ )سورة النور الآية 31،
وحقيقة التوبة الإقلاع عن الذنوب وتركها والندم على ما مضى منها
والعزيمة على عدم العودة إليها. وإن كان عنده مظالم للناس فعليه أن
يردها وأن يتحلل منها قبل سفره، عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي
صلى الله عليه وسلم قال
من كانت عنده مظلمة لأخيه من مال أو عرض فليتحللها
من صاحبه من قبل أن يؤخذ منه حين لا يكون دينار ولا درهم فإن كان له
عمل صالح أخذ منه بقدر مظلمته وإن لم يكن له أخذ من سيئات صاحبه فحمل عليه ) رواه البخاري .
والحديث الذي رواه أبو هريرة رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى
الله عليه وسلم يقول : (من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه) رواه البخاري ومسلم.
هذا الحديث عام مخصوص على الصحيح من أقوال أهل العلم فإن الحج وغيره
من الطاعات كالوضوء والصلاة والعمرة تكفر صغائر الذنوب دون كبائرها
ولا أثر للطاعات في إسقاط حقوق العباد فلا بد من رد الحقوق لأصحابها .
ولا بد للمسلم من التوبة الصادقة من كبائر الذنوب، فإن الحج يكفر صغائر
الذنوب مطلقاً، أما الكبائر المتعلقة بحقوق الناس فإن كانت مالية كدين
عليه أكله ظلماً وعدواناً فلا يكفره الحج ولا بد من وفاء دينه .
وأما الكبائر المتعلقة بحق الله تعالى فإن كانت مثل الإفطار في رمضان
بغير عذر فيجب عليه قضاؤه ولا يكفره الحج . وإن كانت مثل
تأخير الصلاة عن وقتها لغير عذر فإن الحج يكفره وعليه أن يتوب توبة صادقة .
ويقول الشيخ العلامة عبد العزيز بن باز "رحمه الله" في رده على سؤال مماثل:
إذا عزم المسلم السفر إلى الحج أو العمرة...وكان عنده للناس مظالم من نفس أو مال
أو عرض ردها إليهم أو تحللهم منها قبل سفره لما صح عنه صلى الله عليه
وسلم أنه قال: (من كان عنده مظلمة لأخيه من مال أو عرض فليتحلل اليوم
قبل أن لا يكون دينار ولا درهم إن كان له عمل صالح أخذ من سيئات صاحبه فحمل عليه).
فإن المظالم والتبعات وإن سقط بالحج إثم تأخيرها في الماضي لا تسقط هي،
بل لا بد من وفائها، وأنه يتجدد إثمٌ آخر بعد الحج بتأخير الوفاء مع القدرة عليه،
فإن عجز عن الوفاء وتاب إلى الله تعالى ومات على ذلك يُرجَى أن يسقُط عنه إثم التأخير عن الوفاء.
ويقول فضيلة الشيخ حسنين مخلوف رحمه الله (مفتي الديار المصرية سابقا) في رده على سؤال مماثل :
فليس معنى تكفير الحج للكبائر والتبعات ما يظنه كثير من الناس خطأ من أنه
يُسقطها، سواء تعلقت بحق الله تعالى أو بحق العبد، فإنه لم يقل أحد بذلك وإنما
معناه أنه يسقُط إثم تأخير التوبة منها فقط. أما الحقوق نفسها فإنها لا تسقط
مطلقًا، لأنها ليست ذنوبًا ومعاصيَ، وإنما الذنب والمعصية تأخيرها،
وهو الذي يُسقطه الحج المبرور، ويجب على من عليه هذه الحقوق
أداؤها بلا تأخير، وإذا أتم الحج بالوقوف بعرفة واستمر
على تأخيرها صار آثمًا من جديد بهذا التأخير.
ذكر ذلك العلامة ابن نجيم في (البحر الرائق) وبيَّنه العلامة ابن عابدين
في حاشيته عليه بما خلاصته "أن من أخَّر صلاة عن وقتها فقد ارتكب
معصية وهي التأخير، ووجب عليه القضاء، وإذا مطَل الدَّينَ فقد ارتكب
معصية هي المَطل مع وجوب القضاء، وكذلك من قتل إنسانًا فقد ارتكب
معصية وهي الجناية على النفس، ووجب عليه شيء آخر وهو تسليم نفسه
للقصاص أو تسليم الدية، فإذا أخرها كانت معصية أخرى غير معصية القتل.
وكذا نظائر ذلك مما يكون معصية يترتب عليها واجب، سواء كان هذا الواجب
من حقوق الله تعالى أم من حقوق العباد. فما ورد في الأحاديث من تكفير الحج
للذنوب والتَّبِعات فالمراد تكفيره لما هو ذنب وكبيرة كتأخير الصلاة ونحوها
ومَطل الدين والجناية على النفس.
وأما الواجبات المترتبة على ارتكاب تلك الذنوب، من لزوم قضاء الصلاة
وأداء الدين وتسليم نفسه للقصاص أو تسليم الدية، فإنها لا تسقط؛ لأنها
ليست ذنوبًا بل هي واجبات. والتكفير إنما يكون للذنوب، ألا ترى أن التوبة
تكفر الذنوب بالاتفاق، ولا يلزم من ذلك سقوط الواجبات المترتبة على تلك الذنوب.
على أن التوبة من ذنب الغصب مثلًا لا تتم إلا بأداء واجب وهو رد المغصوب
أو ضمانه، ولا يخرج الغاصب عن عهدة الغصب في الآخرة إلا به، فمن
غصب شيئًا ثم تاب لا تتم توبته إلا برده أو ضمانه دون تأخير.
والحج كالتوبة في تكفير الكبائر، سواء تعلقت بحقوق الله تعالى أو بحقوق
العباد أو لم تتعلق بحق أحد، أعني لم يترتب عليها واجب آخر كشرب
الخمر ونحوه، فيكفِّر الحج الذنب ويبقى حق الله تعالى وحق العبد في ذمته،
إن كان ذنبًا يترتب عليه حق الله أو حق العبد، وإلا فلا يبقى عليه شيء.
ويقول الشيخ عطية صقر-رحمه الله-رئيس لجنة الإفتاء بالأزهر الشريف سابقا:
قال اللّه تعالى {إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء} النساء: 48،
وقال صلى الله عليه وسلم "من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع من ذنوبه كيوم
ولدته أمه" رواه البخاري ومسلم . وقال "والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة " رواه البخاري ومسلم.
وقال صلى الله عليه وسلم " الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة
كفارة لما بينهن ما لم تغش الكبائر" رواه مسلم ،
وقال "وأتبع السيئة الحسنة تمحها" رواه الترمذى بسند حسن .
أما الكبائر فتكفرها التوبة النصوح كما قال تعالى { يا أيها الذين آمنوا توبوا إلى اللَّه
توبة نصوحًا عسى ربكم أن يكفر عنكم سيئاتكم } التحريم : 8،
وكما قال بعد ذكر صفات عباد الرحمن وأن من يفعل الكبائر
يضاعف له العذاب { إلا من تاب وآمن وعمل عملاً صالحًا
فأولئك يبدل اللَّه سيئاتهم حسنات وكان اللَّه غفورًا رحيمًا} الفرقان : 70، .
أما الأعمال الصالحة غير التوبة فلا تكفر الكبائر، لأن هذه الأعمال الصالحة لا تؤثر
فى تكفير الذنوب الصغيرة إلا إذا اجتنبت الكبائر كما تقدم في حديث مسلم .
وعلى هذا قالوا : إن النصوص العامة التي فيها تكفير الأعمال الصالحة لكل
الذنوب - كحديث الحج المتقدم - مخصوصة بالذنوب الصغيرة ، أما الكبيرة فلا يكفرها إلا التوبة .
وليكن معلومًا أن التوبة لا تكفر الذنوب التي فيها حقوق العباد لأن
من شروطها أو أركانها أن تبرأ الذمة منها ، إما بردها لأصحابها وإما بتنازلهم عنها .
وبالتالي فالحج أو غيره من الطاعات لا يكفر الذنب الذي فيه حق للعباد
حتى تبرأ الذمة منه ويؤيد ذلك أن الشهادة في سبيل اللَّه ، وهى في قمة
الأعمال الصالحة ، لا تكفِّر حقوق العباد، كما ورد في حديث مسلم "
يغفر اللَّه للشهيد كل شيء إلا الديْن " .
وقد وردت نصوص تدل على أن التبعات والمظالم يكفرها اللَّه بالحج ،
لكن هذه النصوص غير قوية فلا تعارض ما هو أقوى منها ، فالتوبة لا تكفر
التبعات والمظالم إلا ببراءة الذمة، وكذلك الحج لا يكفرها إلا بذلك .
والله أعلم.