المؤمنـ بالله ـة
عدد المساهمات : 280 تاريخ التسجيل : 13/06/2010 الموقع : نســــ الرحمـــة ــائــم
| موضوع: أدب المعصية الثلاثاء أغسطس 17, 2010 11:06 am | |
| |
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين وبعد..
فإن الله خلق الخلق وقال: {أَلَا يَعلَمُ مَن خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك:14]، فخلقهم جل وتعالى على حال ووصف وهيئة يعلمها جلّ وتعالى وركّب فيهم ما شاء من الأوصاف والأخلاق، وجبلهم جل وتعالى على الضعف والنقص والخطأ، وهو مع هذا "لطيف بهم" بما جبلهم عليه. "خبير بهم" وبما يعملون. ومن هذا فقد كتب عليهم الخطأ والذنب والمعصية.
ولمّا كانت المعاصي أمر حتم لابد منه وليس إنسان يُعصم منها -أيّا كان جنسه ووصفه وهيئته ومكانته- إلا الأنبياء، بل لقد ثبت في حديث الشفاعة أن الناس لما يأتون آدم يستشفعون به يردهم بقوله: «ربي غضب غضبا لم يغضب قبله مثله، ولا يغضب بعده مثله، ونهاني عن الشجرة فعصيته، نفسي نفسي» [رواه البخاري] فلمّا كان هذا الأمر أمر حتم، كان لابد من معرفة الأدب فيه على الهيئة التي وصفها الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم.
وإني قد كنت متردداً في أن أسم الموضوع بـ "أدب المعصية" خشية أن يُفهم من العنوان التهوين من شأن المعصية والتسويغ والتبرير لها على عظم شأنها وفداحة جرمها!!
فاستخرت واستشرت فوجدتني أكتب هذا المسطور:
إبرازاً لأدب الإسلام في مراعاته لجبلّة البشرية في تشريعاته وتكاليفه وأوامره ونواهيه، وأدب الإسلام وحرصه على تطهير أفراده وتهذيبهم وتزكيتهم من رجس الشيطان.
هذا من جانب، ومن جانب آخر فإن في بيان هذه الآداب إظهار وبيان لسعة رحمة الله جل وتعالى وسعة علمه وحلمه وعفوه، وكيف أنه جلّ وتعالى تعرّف إلى عباده بجميع أنواع التعرّفات.
ثم إنه قد حلّ في المسلمين قوم يهوّلون المعصية ويعيّرون العاصي حتى لا يكاد يجد باباً مفتوحاً إلى رحمة الله من التأييس والقنوط!
والله الرحمن الرحيم قد خاطب عباده بقوله: {قُل يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر:53]. فتأمل كيف ناداهم الرحمن المتفرّد بالعزة والجلال بأحب المقامات إليه -مقام العبودية- وكيف أكّد سعة رحمته في ختام الآية الكريمة.
فما هي وربي سطور التبرير والتسويغ بقدر ما هي نصيحة محب مشفق {وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَة بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَّحِيم} [يوسف: 53].
فقه الذنوب:
والمقصود بذلك معرفة بعض القواعد الهامة في فقه الذنب والمعصية على ضوء نص الوحي.
أولاً: قَدَر الذنوب والحكمة من ذلك.
لقد بيّن الله تعالى في كتابه شدّة عداوة الشيطان الرجيم لعباد الله تعالى، وأن عداوته لهم باقية حتى يأذن الله تعالى بنهاية الشيطان وشره وشركه.
وتأمل هذا الحوار القرآني الذي يصوّر شدة عداوة الشيطان لعباد الله تعالى، قال تعالى: {إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِق بَشَرًا مِّن طِينٍ ﴿٧١﴾ فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ ﴿٧٢﴾ فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ ﴿٧٣﴾ إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ ﴿٧٤﴾ قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الْعَالِينَ ﴿٧٥﴾ قَالَ أَنَا خَيْر مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ ﴿٧٦﴾ قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيم ﴿٧٧﴾ وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَى يَوْمِ الدِّينِ ﴿٧٨﴾ قَالَ رَبِّ فَأَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ ﴿٧٩﴾ قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنظَرِينَ ﴿٨٠﴾ إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ ﴿٨١﴾ قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ ﴿٨٢﴾ إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ ﴿٨٣﴾ قَالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ ﴿٨٤﴾ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنكَ وَمِمَّن تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ ﴿٨٥﴾ قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ ﴿٨٦﴾ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكرٌ لِّلْعَالَمِينَ ﴿٨٧﴾ وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ} [سورة ص: 71-88].
و ثبت في الأحاديث الصحيحة قوله صلى الله عليه وسلم: - «والذي نفسي بيده! لو لم تذنبوا لذهب الله بكم، ولجاء بقوم يذنبون، فيستغفرون الله، فيغفر لهم» [رواه مسلم].
- «إن الله كتب على ابن آدم حظه من الزنا، أدرك ذلك لا محالة» [رواه البخاري].
- «إن المؤمن خلق مفتنا، توابا، نسيا، إذا ذُكّر ذكَر» [صححه الألباني].
- «كل ابن آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون» [حسنه الألباني].
فبيّنت لنا هذه النصوص وغيرها أن المعصية قدر الله تعالى على عباده وأنه قدر مقضي نافذ لا محالة.
السؤال: ما حكمة تقدير الذنوب والمعاصي على العباد؟!
وهو سؤال حكيم لطيف في بابه، وإن من تأمل الوحي حق التأمل وجد أن الله قد اتصف بـ"الحكيم" وأن حكمته جل وتعالى تتنافى مع أن يقضي الله قضاء عبثاً، فدل ذلك أن قدر الذنوب إنما هو قدر الحكيم اللطيف الخبير..
فانظر إلى هذه الحكم في قدر الذنوب والمعاصي:
1- ليقيم الله تعالى على عبده حجّة عدله فيعاقبه -إن عاقبه- على ذنبه بحجته.
2- حتى تتحقق معاني اسماء الله وتعالى وصفاته، فإن الله جل وتعالى قد اتصف بالرحمة والمغفرة، والرحمة والمغفرة تستلزم ذنباً يُغفر.
3- معرفة الله تعالى باسمائه وصفاته.
هنا -يا رعاك الله- اسمح لي أن أقتطف لك ثمرات يانعات من كلام الإمام الرباني المربي الإيماني شيخ الإسلام وطبيب القلوب شمس الدين ابن القيم رحمه الله وهو يستعذب نصوص الوحي ويكشف من كنوزها في هذا الباب فيقول:
"....فيحدث له ذلك
- أنواعاً من المعرفة بالله وأسمائه وصفاته وحكمته ورحمته ومغفرته وعفوه وحلمه وكرمه.
- وتوجب له هذه المعرفة عبودية بهذه الأسماء لا تحصل بدون لوازمها البتة.
- ويعلم ارتباط الخلق والأمر والجزاء والوعد والوعيد بأسمائه وصفاته، وأن ذلك موجب الأسماء والصفات وأثرها في الوجود وأن كل اسم وصفة مقتضٍ لأثره وموجبه، متعلق به لا بد منه" أ.هـ (تهذيب المدارج ص 132)
ثم استعذب أخي الكريم هذا الوصف البديع من الإمام ابن القيم لهذا المشهد:
يقول:
وهذا المشهد يطلعه على رياض مونقة من المعارف والإيمان وأسرار القدر والحكمة، يضيق عن التعبير عنها نطاق الكلم..
فمن بعضها:
- أن يعرف العبد عزّته في قضائه:
وهو أنه سبحانه العزيز الذي يقضي ما شاء على عبده وأنه لكمال عزته حكم العبد وقضى عليه، وجعله مريداً شائيا لما شاء منه العزيز الحكيم. وهذا من كمال العزة. إذ لا يقدر على ذلك إلا الله.
وغاية المخلوق: أن يتصرف في بدنك وظاهرك، وأمّا جعلك مريداً شائياً لما يشاءه منك ويريده فلا يقدر عليه إلا ذو العزة الباهرة.
- أن يعرف أنه مُدبَّر مقهور ناصيته بيد غيره:
لا عصمة له إلا بعصمته ولا توفيق له إلا بمعرفته، فهو ذليل حقير في قبضة عزيز حميد.
- أن يعرف برّه سبحانه في ستره عليه حال ارتكاب المعصية مع كمال رؤيته له. ولو شاء لفضحه بين خلقه فحذروه، وهذا من كمال بره ومن اسمائه "البر".
- شهود حلم الله تعالى في إمهال راكب الخطيئة، ولو شاء لعاجله بالعقوبة. ولكنه الحليم الذي لا يعجل، فيحدث له ذلك معرفة ربه بإسمه "الحليم" ومشاهدة صفة الحلم والتعبّد لله بهذا الاسم.
- معرفة كرم ربه في قبول العذر منه إذا اعتذر إليه:
فيقبل عذره بكرمه وجوده، فيوجب له ذلك اشتغالاً بذكره وشكره ومحبة أخرى لم تكن حاصلة له قبل ذلك.
- أن يكمّل لعبده مراتب الذل والخضوع والانكسار بين يديه والافتقار إليه:
فإن النفس فيها مضاهاة للربوبية ولو قدرت لقالت كقول فرعون، ولكنه قدر فأظهر وغيره عجز فأضمر وإنما يخلصها من هذه المضاهاة ذل العبودية.
- ومنها السر الأعظم الذي لا تقتحمه العبارة ولا تجسر عليه الإشارة، ولا ينادي عليه مناد الإيمان على رؤوس الأشهاد بل شهدته قلوب خواص العباد.. وذلك: حصول فرح الله تعالى بتوبة عبده الذي ثبت في ذلك الأثر الصحيح: «لله أشد فرحا بتوبة عبده حين يتوب إليه، من أحدكم كان على راحلته بأرض فلاة فانفلتت منه وعليها طعامه وشرابه. فأيس منها. فأتى شجرة فاضطجع في ظلها. قد أيس من راحلته. فبينا هو كذلك إذا هو بها قائمة عنده. فأخذ بخطامها. ثم قال من شدة الفرح: اللهم! أنت عبدي وأنا ربك. أخطأ من شدة الفرح» [رواه مسلم].
القصد أن هذا الفرح له شأن لا ينبغي للعبد إهماله والإعراض عنه، ولا يطلع عليه إلا من له معرفة خاصة بالله وأسمائه وصفاته وما يليق بعز جلاله.
- العبودية لله بإحداث المراغمة بينه وبين عدو الله تعالى:
فمن تعبّد لله تعالى بمراغمة عدوه فقد أخذ من الصديقية بسهم وافر، وعلى قدر محبة العبد لربه وموالاته ومعاداته يكون نصيبه من هذه المراغمة.. وهذا باب من العبودية لا يعرفه إلا القليل من الناس. ومن ذاق طعمه ولذّته بكى على أيامه الأول...
وصاحب هذا المقام إذا نظر إلى الشيطان ولاحظه في الذنب راغمه بالتوبة النصوح فأحدثت له هذه المراغمة عبودية أخرى.
- أن عبودية التوبة من أحب العبوديات إلى الله:
ولهذا يبتلي بالذنب لمحبته جل وتعالى لعبودية التوبة وفرحه بها، فهو سبحانه يفرح بتوبة عبده أشد من فرح الواجد لراحلته التي عليها طعامه وشرابه في الأرض المهلكة بعد ما فقدها وأيس من الحياة!!
فهذه نبذة من بعض لطائف وأسرار التوبة لا تستهزئ بها!!
إلى غير ذلك من الحكم الباهرات التي أطال في سبحاتها شيخ الاسلام ابن القيم رحمه الله في كتابه النفيس (مدارج السالكين).
4 - ثم تأمل أيها المذنب الخطّاء أن هذه الذنوب والمعاصي إنما قدّرها الله تعالى على عبده لتولّد عنده هذا النوع من العبودية له، وهو المعنى الذي دلّ عليه قوله صلى الله عليه وسلم: "والذي نفسي بيده لو لم تذنبوا لذهب الله بكم، ولجاء بقوم يذنبون فيستغفرون الله فيغفر لهم".
فالذنب والمعصية لها جهتان أو أثران:
- الأثر الأول: أثر سلبي انهزامي المذموم وهو الاستسلام للمعصية والإغراق فيها والشؤم بها شؤماً مطلقاً يقعده عن التوبة والاستغفار والعمل.
- الأثر الثاني: الأثر الإيجابي المحمود، وهو أثر يحدثه وقوع المعصية والذنب مما سبق وصفه في مشاهد حكمة الله تعالى في التخلية بين عبده ومعصيته جل وتعالى. فتأمل -يا رعاك الباري- هذه المشاهد ولا حظها في بديع حكمة تقدير الله تعالى الذنوب والمعاصي وتقدير تخليته جل وتعالى بين العبد وبين معصيته.
ثانياً: الذنب المعتاد
وهو فقه أخصّ من سابقه؛ إذ أنه قد يُتوهم أن مشاهد العبودية المترتبة على الوقوع في المعصية والذنب إنما تكون حين يقع الذنب مرة واحدة!!
فجاء هذا الفقه النبوي ليبين أن هذه العبودية تتجدد وتكون كلّما وقع الذنب.
ثبت في الأحاديث قوله صلى الله عليه وسلم: «إن عبدا أصاب ذنبا، وربما قال: أذنب ذنبا، فقال: رب أذنبت، وربما قال: أصبت، فاغفر لي، فقال ربه: أعلم عبدي أن له ربا يغفر الذنب ويأخذ به؟ غفرت لعبدي، ثم مكث ما شاء الله ثم أصاب ذنبا، أو أذنب ذنبا، فقال: رب أذنبت -أو أصبت- آخر فاغفره؟ فقال: أعلم عبدي أن له ربا يغفر الذنب ويأخذ به؟ غفرت لعبدي، ثم مكث ما شاء الله، ثم أذنب ذنبا، وربما قال: أصاب ذنبا، قال: قال: رب أصبت -أو قال أذنبت- آخر فاغفره لي، فقال: أعلم عبدي أن له ربا يغفر الذنب ويأخذ به؟ غفرت لعبدي، ثلاثا، فليعمل ما شاء» [رواه البخاري] .
«ما من عبد مؤمن إلا و له ذنب، يعتاده الفينة بعد الفينة، أو ذنب هو مقيم عليه لا يفارقه، حتى يفارق الدنيا، إن المؤمن خلق مفتنا توابا نسيا، إذا ذكر ذكر» [صححه الألباني].
فتأمل قوله: "فليعمل ما شاء" طالما أنه يستشعر عظم ذنبه وعظمة ربه فيتوب إليه ويؤوب فإن ذلك لا محالة مطهر له من ذنبه حاجز له عن أن يصرّ عليه.
وطالما أن ذلك يحقق له هذه الأنواع من العبودية لله فإن ذلك حقاً هو الحالة السلوكية الواقعية -المثالية- للبشر في الأرض..."يذنبون فيستغفرون الله فيغفر لهم"
ثالثاً: العفو عن حديث النفس والخواطر.
فإنه لما كانت النفس مفطورة على الخطأ ركّب الله فيه خواطر تعتور فكره وهي إما خواطر رحمانية أو شيطانية أو نفسانية.
ولمّا كان العبد غير قادر على أن يحجم خواطره من أن تخطر على باله وفكره فقد عفى الله تعالى عن ذلك.
جاء في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله عز وجل تجاوز لأمتي عما حدثت به أنفسها ما لم تعمل أو تكلم به» [رواه مسلم].
بل أعظم من ذلك فإن الانتهاء عن داع النفس والخاطر السيء يورث أجراً من الله الكريم المنان. فقد قال صلى الله عليه وسلم: «ومن هم بسيئة فلم يعملها كتبها الله له عنده حسنة كاملة» [رواه البخاري].
رابعاً: الذنوب سبب الهلاك والإهلاك.
وذلك حين لا تتحقق الواقعية -المثالية- من هذا القضاء والقدر..
حين لا يتحقق "الاستغفار" والعبودية لله..
حين تحدث المعصية إرتكاساً وعمىً..
حين لا يورّث الذنب ذلاً وخضوعاً..
حينها يستحقون الهلاك ويقع الإهلاك..
إن الله جل وتعالى إنّما قدر هذه الذنوب والمعاصي لتحدث أثراً إيجابياً في واقع الحياة والسلوك من معرفة الله تعالى بأسمائه وصفاته وتحقيق العبودية له.
أمّا حين تكون طغياناً وجبروتاً واستهزاءً واستعجالاً للعذاب.. تكون هي رجسة الشيطان، وذلك لا يكون إلا ممن تسلّط عليه إبليس فملك منه لبّه وعقله وفؤاده -أجارنا الله وإياكم من ذلك-.
تلك أربع قواعد في فقه الذنب والمعصية. فكن منها على بصيرة وعلم.
رفقاً رفقاً
بعد أن علمت هذا أيها المبارك.. فإني أقول لك: رفقاً رفقاً..
رفقاً بنفسك التي بين جنبيك فلا تؤيّسها من رحمة الله...
وتأمّل عظيم فضل الله وإحسانه وبرّه عليك..
فلا يُشغلنّك الشيطان بذنبك عن أن تطالع عبودية الله في أثر معصيتك..
فإن هذا مقام عظيم...
ورفقاً رفقاً.. أيها الناس بالمذنبين...
لا تعيّروهم، أو تقنّطوهم..
بل افتحوا لهم باب الأمل بالله..
والرجاء به..
والتوبة والأوبة إليه..
لماذا يستنكر الناس وقوع بعضهم في المعاصي؟!
خاصة في صفوف ذوي الهيئات من الناس، فما والله هم بأفضل من صحابة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- رضي الله عنهم..
فقد علمنا أن فيهم من زنا..
ومن سرق..
ومن شرب الخمر..
ومن جسّ عليهم..
بل ومنهم من ارتدّ عن الإسلام إلى الكفر ثم آمن!!
هؤلاء وهم أطهر الخلق بعد الأنبياء وقعوا في مثل هذه الذنوب والمعاصي!!
فهل يعي الناس أن الناس سواء في هذا الباب -أعني في باب الوقوع في المعاصي والذنوب- !!
صحيح أن الذنب من العظيم عظيم..
لكن ذلك لا يجعلنا نؤيّسهم أو نقنّطهم أو نعين الشيطان عليهم في إبعادهم عن طريق النور والهدى.. الطريق الذي يوصل إليه..
أستغفر الله!!
و "إن المؤمن خُلق مفتّناً توّاباً نسيّا، إذا ذُكّر ذَكر".
أدب المعصية
وهو بيت القصيد من الموضوع.
وفيه بيان جملة الآداب التي جعلتها الحنيفية السمحة في سبيل تحقيق السلوك الواقعي -المثالي- في التعامل مع قدر الخطيئة.
ولزوم هذه الآداب مما يعين العبد المقصّر المذنب الخطّاء على تحقيق هذا السلوك والله المستعان.
هذه الآداب وقاية من الوقوع في الذنب، -وهي لا تعني بالضرورة الحماية منها- لأنه سبق وأن تبين أن الوقوع في الخطيئة والذنب أمر حتم..
لكن هي وقائية من جهة:
- عدم حصول الإصرار على المعصية. - عدم حصول اليأس والقنوط من شدّة وطأة المعصية. - من عدم حصول الهلاك والإهلاك.
الأدب الأول: استعظم ولا تحتقر !!
فإن الذنوب هي حالة استجابة لداعي الشيطان، مهما صغرت الخطيئة، والشيطان عدو لله، فاستجابة داعي الشيطان والغفلة عن داعي الرحمن أمر عظيم مهما حقر في نظر العاصي.
عن سهل بن سعد رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إياكم ومحقرات الذنوب، كقوم نزلوا في بطن واد فجاء ذا بعود وجاء ذا بعود حتى أنضجوا خبزتهم، وإن محقرات الذنوب متى يؤخذ بها صاحبها تهلكه» [قال الألباني اسناده صحيح على شرط الشيخين].
ويقول ابن مسعود رضي الله عنه: "إن المؤمن يرى ذنوبه كأنه قاعد تحت جبل يخاف أن يقع عليه، وإن الفاجر يرى ذنوبه كذباب مرّ على أنفه فقال به هكذا، ـ قال أبو شهاب بيده فوق أنفه-".
يقول بلال بن سعد: "لاتنظر إلى صِغر المعصية، ولكن انظر إلى عظمة من عصيت!!".
وإن من خوارم هذا الأدب:
- التساهل والتوسّع في المشتبهات.
- التوسّع في قضية الضرورة وأحكامها، فتتساهل المرأة في الكشف عند الطبيب، والتوسع من جهة الخدم والخادمات والتوسع في اقتناء الفضائيات... وهكذا!،، بحجّة الضرورة..
ومثل هذا التوسّع والتساهل مما يضعف في النفس استعظام الخطيئات ويورث احتقار الصغائر من الذنوب والمعاصي!!
إن النفس التي تستعظم الذنب ولا تحتقر المحقرات من الذنوب أشد ما تكون ثقة بالله وأنساً به وفراراً إليه منه!!
فإن ذلك وقاية لها من أن تغفل فتطيش... فتوغل ..
ووقاية لها من الهلكة ..
وإن حصول القنوط من الهلكة!!
والإيغال هلاك!!
الأدب الثاني: فلا تقعد معهم !!.
كان من وصيته صلى الله عليه وسلم لأصحابه الكرام أن يبتعدوا عن دواعي المعصية ما أمكن فقال: «إياكم والجلوس في الطرقات. قالوا: يا رسول الله! مالنا بد من مجالسنا. نتحدث فيها. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فإذا أبيتم إلا المجلس، فأعطوا الطريق حقه. قالوا: وما حقه؟ قال: غض البصر، وكف الأذى، ورد السلام، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر» [رواه مسلم].
إن المعصية ليست وليدة الفجأة والمصادفة..
إنما لها مقدمات وأسباب إذا حصلت حصل نتاجها..
وإن إلف العبد وتساهله في ارتياد مواطن المعاصي والذنوب يورث عنده فتوراً عن الورع والحزم والعزم..
كما يورث في نفسه إقبالاً على المعصية والخطيئة وبُعداً عن التوبة والأوبة..
ومن هذا الباب ثبت النهي عن ارتياد مواطن العذاب والإهلاك..
أيها المبارك..
فارق دواعي المعصية.. صديقاً كان أو مجلة أو شريطاً أو رقماً في هاتف أو فلماً أو مسلسلاً أو نادياً او مجلساً أو آلة ..!!
واجعل بينك وبين أرباب الذنوب والمعاصي عزلة شعورية. إن لم يمكنك العزلة الجسدية على حدّ قوله جل وتعالى: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [الأنعام:68].
الأدب الثالث: دافع وأصلح خواطرك
معلوم أن كل أعمال بني البشر إنما أصلها خطرة وفكرة حتى تصير كسباً وعملاً، والمعصية والخطيئة أصلها خطرة أو فكرة..
والخواطر كما قسّمها ابن القيم رحمه الله ثلاث خواطر:
1- رحمانية. 2- شيطانية. 3- نفسانية.
فالخواطر الرحمانية هي كل خاطرة لعمل البر والفضل كالجهاد وطلب العلم والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والصدقات وغير ذلك.
أمّا الخواطر الشيطانية فهي خواطر الفحشاء والمنكر.
أما الخواطر النفسانية فهي الرؤى والأحلام.
والخواطر أمرها عظيم من حيث أنها لا ينفك عنها أي بشر من البشر، وتكمن الخطورة فيها من جهتين:
- الجهة الأولى: كون أن الله جل وتعالى مطلع عليها فهو جل وتعالى {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ} [غافر:19] و {فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى} [سورة طه: 7].
- الجهة الثانية: من كون الخاطرة هي شرارة العمل الأولى. فالقلب لوح والخواطر نقوش تنقش فيه.
يقول ابن القيم رحمه الله: "وأما الخطرات فشأنها أصعب فإنها مبدأ الخير والشر، ومنها تتولد الإرادات والهمم والعزائم، فمن راعى خطراته ملك زمام نفسه وقهر هواه، ومن غلبته خطراته فهواه ونفسه له أغلب. ومن استهان بالخطرات قادته قهراً إلى الهلكات... وهي أضر شيء على الإنسان ويتولّد منها العجز والكسل، وتولد التفريط والحسرة والندم، والمتمني لمّا فاتته مباشرة الحقيقة بجسمه حوّل صورتها في قلبه وعانقها وضمها إليه ففتح بوصال صورة وهمية خيالية صورها فكره، وذلك لا يجدي عليه شيئا، وإنما مثله مثل الجائع الظمآن يصور في وهمه صورة الطعام والشراب وهو لا يأكل ولا يشرب، والسكون إلى ذلك واستجلابه يدل على خسارة النفس ووضاعتها، وإنما شرف النفس وزكاؤها وطهارتها وعلوها بأن ينفي عنها كل خطرة لا حقيقة لها ولا يرضى أن يخطرها بباله ويأنف لنفسه منها.
حتى يقول: ..واعلم أن ورود الخاطر لا يضر وإنما يضر استدعاؤه ومحادثته!" (الجواب الكافي 198 - 199).
و يقول في غير هذا الكتاب: "دافع الخطرة فإن لم تفعل صارت فكرة فدافعها فإن لم تفعل صارت همّاً وغرادة فدافع ذلك فإن لم تفعل صار عملاً وسلوكاً فدافع ذلك فإن لم تفعل صار عادة وسجية!! من هنا علمنا خطورة الخواطر وأثر مدافعتها وأثر استدعائها ..
ولذا كان لابد من إصلاح الخواطر. وطريق إصلاحها من ثلاث جهات:
الأولى: تفريغ القلب من الخواطر الرديّة بعدم الالتفات أو استدعاء الردي منها.
الثانية: فإذا تفرّغ القلب كان لابد من ملئه.. فاملأه وأشغله بالله وبمحبته وهذا الإشغال له خمس طرق:
أ- الفكرة في آياته المنزلة وتعلقها وفهم مراده منها.
ب- الفكرة في آياته المشهودة والاعتبار بها والاستدلال بها على اسمائه وصفاته وحكمته وإحسانه وبره وقد حض الله على هذا التفكر وذم الغافلين عنه.
جـ- الفكرة في الآئه وإحسانه وإنعامه على خلقه بأصناف النعم وسعة رحمته ومغفرته.
وهذه الأنواع الثلاثة تستخرج من القلب معرفة الله ومحبته وخوفه ورجائه.. فأكمل الناس أكثرهم خواطر وفكراً وإرادات لذلك.
ولهذا عمر بن الخطاب رضي الله عنه كانت تتزاحم عليه الخواطر في مراضي الرب تعالى فربما استعملها في صلاته وكان يجهّز جيشه وهو في الصلاة فيكون قد جمع بين الجهاد والصلاة!!
د- الفكرة في عيوب النفس وآفاتها وفي عيوب العمل، فهذه الفكرة تكسر النفس الأمارة بالسوء وتحيي النفس المطمئنة.
هـ- الفكرة في واجب الوقت ووظيفته -من مصالح الدين والدنيا- وجمع الهمّ كله عليه.
الثالثة: حماية الخواطر من الحرام والخطيئة. وذلك بطريقين:
- مفارقة دواعي الحرام ومواطنه الحسّية.
- الموازنة والمقارنة ومعرفة العواقب والمآلآت.
وازن بين لذّة الإقبال على الله ولذّة الإقبال على الرذائل!!
وازن بين لذّة الذنب ولذّة العفة!!
وازن بين لذّة الانتصار على الشيطان وقهره ولذة الظفر بالمعصية والخطيئة!!
وهكذا وازن وتذكّر العواقب والمآلآت فإن ذلك مما يحمي الخواطر من أن تستدعي الحرام الردي.
الأدب الرابع: جالس الأخيار.
المرء قليل بنفسه كثير بإخوانه!!
ولذلك فإن صحبة الأخيار ومجالستهم مما يقي المرء -بإذن الله- من وضر المعاصي وشؤم الخطيئات..
وكون صحبة الأخيار وقاية تظهر من جوانب:
الجانب الأول: من جهة أن مجالسة الأخيار حماية من الخلوة والوقوع في أسر الخواطر أو غشيان مواطن المعاصي.
الجانب الثاني: من جهة توجيههم ونصحهم وإرشادهم. فإن الأخوة الصادقة تحتّم على المتآخين أن ينصح بعضهم بعضاً وأن لا يزين بعضهم لبعض تقصير الآخر. فمن هذا الباب الصحبة الصالحة مكمّلة منقّية واقية.
الجانب الثالث: أن الندم والحسرة والتألم على المعصية إنما تجنيه من الصحبة الصالحة، وهو من ثمرات صحبتهم، وإنك حين تفارقهم فسرعان ما يخبت هذا الصوت ويقل أثر هذه اللامة للنفس!!
ومن هنا نعلم أن ترك صحبة الأخيار بحجة الذنوب والمعاصي والخطيئات من أعظم مداخل الشيطان وخواطر المعصية.
هب أنك فارقت الأخيار فهل سيزول ما تشتكي من داء المعصية ؟؟!
أم أنك ستفقد الدواء ويستفحل الداء!!
إن الإنسان لا بد له من صحبة الأخيار ، فإن هو ترك الأخيار فلمن يذهب ! ليس إلاّ إلى من يزيّنون له المعصية ويقحمونه فيها !!
الأدب الخامس: فانصب!
يقول أحد العارفين: النفس.. إن لم تشغلها بالطاعة شغلتك بالمعصية!!
وذلك سرّ من أسرار التوجيه الرباني: {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ ﴿٧﴾ وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَب} [الشرح: 7،8].
إن إشغال النفس بعمل الصالحات (صلاة.. صيام.. بر وإحسان.. صدقات.. زيارة مريض.. إجابة دعوة.. تحضير كلمة.. سماع شريط.. مباسطة الأهل والإخوان...) من أهم الوقايات للعبد في هذا الباب.
وإن ترك العمل الدعوي أو ترك الالتزام والاستقامة على طريق الحق بحجة المعاصي من غوائل الشيطان على العباد.
لاشك أن القول الذي لا يصدّقه العمل أمر مذموم، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ ﴿٢﴾ كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ} [الصف:2،3].
وجاء في الحديث عن أسامة بن زيد رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يجاء بالرجل يوم القيامة فيلقى في النار، فتندلق أقتابه في النار، فيدور كما يدور الحمار برحاه، فيجتمع أهل النار عليه فيقولون: أي فلانا ما شأنك؟ أليس كنت تأمرننا بالمعروف وتنهانا عن المنكر؟ قال: كنت آمركم بالمعروف ولا آتيه، وأنهاكم عن المنكر وآتيه» [رواه البخاري].
• هل هذا الندم الذي ورد في النصوص، هو ذم للرجل على دعوته وإنكاره للمنكر؟ أم ذم له على فعل المنكر مع أنه أولى الناس باجتنابه؟!
قال ابن كثير رحمه الله: "و ليس المراد ذمهم على أمرهم بالبر مع تركهم له، بل على تركهم له".
• البشر كلهم خطّاؤون، مقترفون للذنوب، فحين نعمم هذه النتيجة فهل يوجد أحد لا يقع في المعصية؟!
وعليه فيلزم أن نقول: أن لا يدعو أحد إلى الله وهو يعصي الله!!
ولو لم يعظ في الناس من هو مذنب فمن يعظ العاصين بعد محمـد؟!
• أن الواجب على المرء تجاه المنكر أمران:
أ) تركه. ب) النهي عنه.
والواجب عليه تجاه المعروف أمران:
أ) فعله. ب) الأمر به.
قال ابن كثير: ...فكل من الأمر بالمعروف وفعله واجب لا يسقط أحدهما بترك الآخر على أصح قولي العلماء من السلف والخلف.
أن ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بحجة المعصية منكر بحد ذاته!". (سبيل النجاة من شؤم المعصية لمحمد الدويش بتصرف).
الأدب السادس: داوم على الاستغفار.
والاستغفار أدب من الآداب الواقية من جانبين:
الأول: أنه يحيي في النفس توقير الله وتعظيمه.
الثاني: أنه يمحو الخطايا والذنوب.
عن الأغرّ المزني رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إنه ليغان على قلبي، وإني لأستغفر الله في اليوم مائة مرة» [رواه مسلم].
وكان من دعائه صلى الله عليه وسلم: «رب اغفر لي خطيئتي وجهلي، وإسرافي في أمري كله، وما أنت أعلم به مني. اللهم اغفر لي خطاياي، وعمدي وجهلي وهزلي، وكل ذلك عندي. اللهم اغفر لي ما قدمت وما أخرت، وما أسررت وما أعلنت، أنت المقدم وأنت المؤخر، وأنت على كل شيء قدير» [رواه البخاري].
وكان من دعاء الأنبياء والمرسلين:
-دعاء نوح عليه السلام: {رَّبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَن دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَبَارًا} [سورة نوح:28].
- دعاء إبراهيم عليه السلام: {وَالَّذِي أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ} [سورة الشعراء: 82].
- دعاء موسى عليه السلام : {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي} [سورة الأعراف: 151].
عند هذا... يقف المسلم الحق يتسآءل: وأي خطيئة ارتكبها أنبياء الله حتى يستغفرون؟
ماذا جنت هذه النفس الطاهرة؟ وأي خطيئة أسرّها وأعلنها وقدّمها وأخّرها؟؟؟
لئن كان صلى الله عليه وسلم وهو الذي غُفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر يستغفر الله في اليوم والليلة مائة مرّة، فكيف بنا نحن معشر المذنبين المخلّطين؟؟!!
إنها النفوس الطاهرة العارفة بالله حقاً.
ولئن كان الاستغفار يطهر النفس ويزكيها فلا يجعلها تألف اقتراف المحرمات، فكذلك هو يمحو الخطايا إن وقعت وحصلت..
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن العبد إذا أخطأ خطيئة ، نكتت في قلبه نكتة سوداء ، فإن هو نزع واستغفر وتاب صقل قلبه ، وإن عاد زيد فيها حتى تعلو على قلبه ، وهو الران الذي ذكر الله تعالى {كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [المطفيين:14] » [حسنه الألباني].
ثم إن الاستغفار أمر يعجب الرب جل وتعالى، فعن علي رضي الله عنه: أنه صلى الله عليه وسلم قال: «إن ربك سبحانه وتعالى يعجب من عبده إذا قال : رب اغفر لي ذنوبي، يعلم أنه لا يغفر الذنوب غيري» [قال الألباني حسن صحيح].
وإن الاستغفار الذي يترك أثره في النفس ويؤدي المقصود هو الذي يواطىء القلب فيه اللسان.
الأدب السابع: لا تجاهر!
كما أن الطاعات تتفاوت مراتبها ودرجاتها بحسب الأعمال ذاتها، وبحسب العامل والوقت والسر والجهر؛ فكذلك المعاصي!!
فقد دلّت النصوص على أن المعصية التي يستتر بها صاحبها أخف جرماً من التي يعلنها.
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «كل أمتي معافى إلا المجاهرين، وإن من المجاهرة أن يعمل الرجل بالليل عملا، ثم يصبح وقد ستره الله، فيقول: يا فلان، عملت البارحة كذا وكذا، وقد بات يستره ربه، ويصبح يكشف ستر الله عنه» [رواه البخاري].
وعن ابن عمر رضي الله عنهما أن رجلا سأل ابن عمر : «كيف سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في النجوى؟ قال: يدنو أحدكم من ربه حتى يضع كنفه عليه، فيقول: عملت كذا وكذا؟ فيقول: نعم، ويقول: عملت كذا وكذا؟ فيقول: نعم، فيقرره ثم يقول: إني سترت عليك في الدنيا، فأنا أغفرها لك اليوم» [رواه البخاري].
إن المؤمن الذي يخاف من مولاه ويعظمه ويخشى عقابه، تلومه نفسه على المعصية وتحرق فؤاده، فكيف يحدّث الناس أنه يعمل.. ويعمل.
وقد أشار ابن عقيل رحمه الله إلى معنى لطيف في الاستسرار بالمعصية وأن هذا الاستسرارا طاعة لله، وان معافاة الله تعالى للمستتر بذنبه إنما كان لاستتاره. (الآداب الشرعية لابن مفلح 1 / 255)
الأدب الثامن: أتبع السيئة الحسنة تمحها!
«جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! إني عالجت امرأة في أقصى المدينة. وإني أصبت منها ما دون أن أمسها. فأنا هذا. فاقض في ما شئت. فقال له عمر: لقد سترك الله، لو سترت نفسك. قال فلم يرد النبي صلى الله عليه وسلم شيئا. فقام الرجل فانطلق. فأتبعه النبي صلى الله عليه وسلم رجلا دعاه، وتلا عليه هذه الآية: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِّنَ اللَّيْلِ ۚ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ۚ ذَٰلِكَ ذِكْرَىٰ لِلذَّاكِرِينَ} [هود:114]. فقال رجل من القوم: يا نبي الله! هذا له خاصة؟ قال: بل للناس كافة» [رواه مسلم].
وإن من اتباع السيئة الحسنة أن تتبع المعصية بالتوبة منها بلا تسويف أو تأجيل أو قنوط. قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [آل عمران:135]. وقال عزّ وتعالى: {فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُورًا} [الإسراء:25]. قال ابن المسيب: "هو الذي يذنب ثم يتوب، ثم يذنب ثم يتوب، ثم يذنب ثم يتوب".
وقال تعالى {وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة:195]، قال البراء: "هو الرجل يذنب الذنب فيقول: لا يغفره الله لي!!".
وكل ما كانت الحسنة من جنس عمل السيئة كان ذلك أبلغ في المحو.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "وينبغي أن تكون الحسنات من جنس السيئات فإنه أبلغ في المحو".
فتأمل عظيم منّة الله وفضله وسعة رحمته كيف أنه جعل لك من ضيق الذنب فرجاً واسعاً ..
الأدب التاسع: لا تعيّر غيرك بالذنب!!
المسلم يحب الله، ويحب طاعة الله، وهو كذلك يبغض معصية الله ومن يقارفها؛ فالمؤمن يمتلك قلباً مرهفا ونفساً جيّاشة لا تملك الحياء مع من يجترىء على محارم الله، فالحب في الله والبغض في الله من أوثق عرى الإيمان.
لكن من الناس من يشتط فبدلاً من بغضه للمعصية وصاحبها، يعيّر المذنب ويتعالى عليه!!
جاء في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «أن رجلا قال: والله لا يغفر الله لفلان. وإن الله تعالى قال: من ذا الذي يتألى علي أن أغفر لفلان. فإني قد غفرت لفلان وأحبطت عملك. أو كما قال» [رواه مسلم].
ومرّ أبو الدرداء رضي الله عنه على رجل قد أصاب ذنباً فكانوا يسبّونه فقال: "أرأيتم لو وجدتموه في قليب ألم تكونوا مستخرجيه؟ قالوا: بلى. قال: فلا تسبوا أخاكم واحمدوا الله الذي عافاكم؛ قالوا: أفلا تبغضه؟ قال: إنما أبغض عمله، فإذا تركه فهو أخي".
وقال أبو الدرداء: "أدع الله في يوم سرّائك لعله أن يستجيب لك في يوم ضرّائك".
إن الأولى بالمرء المسلم أن لا يعيّر أخاه بالذنب، أو يهزأ به بالمعصية، إن الواجب عليه تجاه أخطاء الآخرين أن يقف عند حدّ المناصحة والستر والدعاء لهم وسؤال الله العافية.
إن الذي يعيّر أخاه بالذنب برهان على إفراط صاحبه في ثقته بنفسه وتزكيته لها، والغرور بوّابة الهلاك وأمارة من أمارات إحساس العبد باستغنائه عن معونة مولاه، وأين هذا عن أعرف الخلق بالله حين قالوا... :
- {وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُن مِّنَ الْخَاسِرِينَ} [سورة هود:47].
- {وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُن مِّنَ الْجَاهِلِينَ} [سورة يوسف:33]." (محمد الدويش بتصرف)
الأدب العاشر: تب إلى الله ولا تيأس أو تقنط
قال الله تعالى:
- {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [سورة النور:31].
- {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [سورة الزمر: 53].
فالتوبة التوبة -يا رعاك الله- وأجب نداء ربك الرحمن وهو يناديك:
قال الله تعالى: «يا ابن آدم! إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي.. يا ابن آدم! لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك ولا أبالي.. يا ابن آدم! لو أنك أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئا لأتيتك بقرابها مغفرة..» [حسنه الألباني].
«يا عبادي! إنكم تخطئون بالليل والنهار، وأنا أغفر الذنوب جميعا» [رواه مسلم]. «فمن علم منكم أني ذو قدرة على المغفرة فاستغفرني غفرت له ولا أبالي» [حسنه الترمذي].
فهل تجيب نداء ربك ..
وهل تدخل في رحمته ..
«إن الله عز وجل يبسط يده بالليل، ليتوب مسيء النهار. ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل» [رواه مسلم].
يا آدم.. ذنب تذل به إلينا أحب إلينا من طاعة تدلّ بها علينا!!
يا أدم .. أنين المذنبين أحب إلينا من تسبيح المدلّين!!
ثم أعلم -يا رعاك الله- أن التوبة النصوح ليست ألفاظا يلهج بها اللسان دون مواطئة القلب والجوارح..
بل التوبة النصوح التي تنفع هي التي استكملت شرائطها:
ابتداء من:
- الإقلاع عن الذنب. - الندم على ما فات! - العزم الجازم على ترك معاودته.!!
وانتهاء بمعاودة التوبة كلّما وقع الذنب..
جاء في المسند عند أحمد: «إن الله يحب العبد المؤمن المفتن التواب» [قال الألباني اسناده واه جدا].
وإن من موجبات التوبة الصحيحة ...
كسرة خاصة تحصل للقلب لا يشبهها شيء و لا تكون لغير المذنب، ولا تحصل بجوع و لا رياضة، ولا حب مجرد، إنما هي أمر وراء هذا كله تكسر القلب بين يدي الرب كسرة تامة، قد أحاطت به من جميع جهاته، وألقته بين يدي ربه طريحاً ذليلاًّ خاشعاً، كحال عبد آبق من سيده، فأُخذ وأُحضر بين يديه، ولم يجد من ينجيه من سطوته، ولم يجد منه بداً، ولا عنه غناءً ولا منه مهرباً، وعلم أن حياته وسعادته وفلاحه ونجاحه في رضاه عنه، وقد علم إحاطة سيده بتفاصيل جناياته، هذا مع حبه لسيده وشدة حاجته إليه، وعلمه بضعفه وعجزه وقوة سيده، وذله وعز سيده. فيجتمع من هذه الأحوال كسرة وذل وخضوع ما أنفعها للعبد، وما أجدى عائدها عليه، وما أعظم جبره بها وما أقربه بها من سيده!
فليس شيء أحب إلى سيده من هذه الكسرة والخضوع والتذلل والإخبات والإنطراح بين يديه، والإستسلام له. فلله ما أحلى قوله في هذه الحال "أسألك بعزّك وذلّي إلا رحمتني، أسألك بقوتك وضعفي، وبغناك عني وفقري إليك، هذه ناصيتي الكاذبة الخاطئة بين يديك، عبيدك سواي كثير، وليس لي سيد سواك، ولا ملجأ ولا منجى منك إلا إليك، أسألك مسألة المسكين، وابتهل إليك ابتهال الخاضع الذليل، وأدعوك دعاء الخائف الضرير، سؤال من خضعت لك رقبته، ورغم لك أنفه، وفاضت لك عيناه ، وذل لك قلبه،
يا من ألوذ به فيما أؤمــــله *** ومن أعوذ به فيما أحـــاذره لا يجبر الناس عظما أنت كاسره *** ولا يهيضون عظما أنت جابـره
فهذا وأمثاله من آثار التوبة المقبولة، فمن لم يجد ذلك في قلبه فليتهم توبته، وليرجع إلى تصحيحها، فما أصعب التوبة الصحيحة بالحقيقة، وما أسهلها باللسان والدعوى، وما عالج الصادق شيئاً أشق عليه من التوبة الخالصة الصادقة، ولا حول ولا قوة إلاّ بالله. أ.هـ (المدارج).
تلك عشرة كاملة، على الخطيئات صائله ..
فاستقلّ منها إن شئت أو استكثر ..
فاز التائب بأوبته وعودته ..
وهلك الهالك بكبره ونزوته ..
اللهم أقل العثرة ..
واغفر الزلة ..
وألهمنا الرشد والهدى ..
وادفع عنّا السوء والردى ..
اللهم آمين ..
والحمد لله رب العالمين ..
وكتبه أخوكم أبو أحمد (مهذب) صيد الفوائد
|
| |
|
ظنى بربى جميل
عدد المساهمات : 722 تاريخ التسجيل : 13/06/2010 الموقع : نسائم الرحمه
| موضوع: رد: أدب المعصية الثلاثاء سبتمبر 14, 2010 8:51 am | |
| | |
|
المدير Admin
عدد المساهمات : 2380 تاريخ التسجيل : 26/05/2010
| موضوع: رد: أدب المعصية الأحد ديسمبر 19, 2010 11:15 pm | |
| جزيتم الفردوس الاعلى ورزقكم الله صحبة النبى صلى الله عليه وسلم فى الفردوس | |
|