{هنيئــاً للصابرين}
قمت مع رفقة من الأصحاب والجيران بالمشاركة بتشييع ذلك الطفل الصغير (( خالد )) .. ودفنه فقد اختاره الله سبحانه وتعالى إلى جواره وهو ما يزال في المهد .. ، حيث لم يتجاوز عمره (( ستة أشهر )) .. من عمر هذه الحياة القصيرة الفانية ....
عند الكشف عن وجهه أبان القيام ( بلحده ) في قبره ، ... تبدت لنا صورة بهية لذلك الطفل العائد إلى رحمة ربه .. ، وبدا وكأن النور يخرج من بين خبايا طبقات القماش المتداخلة فيما بينها – الكفن - ، .. ويعلمنا عن مكنون السعادة الذي أحس به ذلك الصغير وهو يتحول إلى طير من أطيار الجنة ،... يرفرف في أرجاءها حيث يريد ... ليستقر في أحضان نبي الله "" إبراهيم الخليل "" عليه السلام ، .. حيث الحنان والرعاية تغمره إلى أن تقوم الساعة ....
آه .. ما أجملها من رحلة تلك التي بدأها ذلك الصغير ... من أول خطوة له ... بعد مفارقته لهذه الحياة ... وبعيد وضعه في لحده ... ، فهنا .. وهنا فقط تكون رحلة الخلود قد حان موعد انطلاقتها ... إلى مالا نهاية ، ...فهنيئا لذلك الخالد " خالد " ... في جنة الخلد والنعيم المقيم ...
في تلك اللحظات ،.. حيث الروحانيات تتجلى ، .. ودموع الخشية تنسكب معلنة عن صفحة جديدة مع الله ، .. وعهد على الاستقامة .. وتوبة نصوح ، فهنا يتذكر المرء ( ما كان ينسى أو يتناسى ) ..حياته التالية – حياة الآخرة - ، .. يتذكر الموت .. القبر .. والحساب ،.. يتذكر العذاب والنار والجنة .. ، تمر هذه المراحل المتتابعة على عظمتها في مخيلته كفيلم مصور ،.. بسرعة خاطفة .. ، فتصغر الدنيا في نظره ، ويحس ساعتها كم هي حقيرة ،
ولا تساوي شربة ماء ... ، ويتذكر ساعتها أيضا بأن الدنيا ما هي إلا دار ممر ، وليست دار مقر ... ، وما هي إلا خروج من نفس الباب الذي تم الدخول منه ،.. هنا فقط .. يشعر المرء بعظم ذنبه ،.. وفداحة تقصيره في جنب الله ، .. فيلجأ إليه طالبا منه العفو والصفح والغفران ، .. ويلهج لسانه بذكر الله ، ويغدو قلبه مطمئنا بذكره ... (( ألا بذكر الله تطمئن القلوب ))..
نظرت في المكان نظرة فاحصة ... ، فرأيت ما سر خاطري ، وأبهج قلبي .. فهذه البقعة من المقبرة مخصصة لدفن " الأطفال الصغار " فقط ، حيث لا تختلط ذنوب الكبار " مع براءتهم ، ترى المكان يزداد نورا كلما امعنت النظر فيه .. ، قبور صغيرة المساحات ، متراصة الصفوف ،.. لا تعلوها بهارج .. الدنيا ... ،و( فخفخة ) الأهل وبذخهم .. فتراها من تراب لا من رخام ، .. تشعر ساعــتئذٍ وكأنك في روضة من رياض الجنة ... ، ولن تكون بأي حال .. حفرة من حفر النيران ... ، فهؤلاء ماتوا عن صفحة بيضاء ، ... وقلوب نقية ، خالية من الشرك والحقد ... والكراهية ،.. لم تشغلهم هذه الحياة الفانية .. بزخارفها وبهارجها ،فنالوا بذلك رحمة الله ورضوانه .. ، وحق لهم شرف الخلود في جنان النعيم .
بجوار ذلك القبر ، قبر آخر لصغير منتظر ، .. بانتظار أن تزفه جماعة من المشيعين لتدفنه فيه ،.. لكنه ما يزال خاليا أمامي .. ينتظر صاحبه ، فقلت في نفسي .. والحسرة والألم يعتصراني ... ، وتصورت أن هذا القبر لي أنا ... أو لغيري ممن بلغوا من العمر عتيا .. ، تذكرت ..كيف ينادي القبر في كل حين :" يا ابن آدم .. أنا بيت الظلمة ... أنا بيت الوحشة ، أنا بيت الدود .... وتذكرت أنه ما من يوم تطلع فيه الشمس إلا وينادي مناد :
" يا ابن آدم: أنا يوم جديد ، وعلى عملك شهيد ... ، فاغتنم مني ، فإني لا أعود إلى " يوم القيامة " ...، تذكرت هذا كله .. ، وتذكرت ما سيئول إليه حالنا نحن بنعيم الله وجنته للفائزين ، .. والحسرة والويل والثبور لأولئك الذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة ..
هذا هو الفرق بين البراءة .. ، وبين غيرهم ممن حق عليهم الحساب ،.. فنالوا ما جنـت أيديهم من عقاب أو ثواب ...
وهذا " خالد " وأمثاله من أطفال الدنيا ، .. حازوا الخير ، وفازوا بالجنة ،
" لكــنَّ البشرى التي يحملها هؤلاء الأطفال لآبائهم " عظيمة ، .. وعلى باب الجنة ذات يوم .. سيقفون ، .. لا يمنعهم من أن يلجوها إلا شوقهم إلى آبائهم ،.. ورغبتهم في مشاطرتهم إياهم نعيم الجنة .. ورحمة الله فيها .
وإذا بالإرادة الإلهية تتجلى .. إكراما لهؤلاء .. " أن ادخلوا الجنة أنتم وآباؤكم " فيها تحبرون "" ، .. فما أعظمها من نعمة .. ، و ما أروعه من كنز ، ذلك الذي قمت ذات يوم بدفنه بباطن الأرض " رغما عنك " وأنت تحتسبه عند الله ...
فهنيئا للصابرين ....**