أعظم الأرزاق... حياة القلب
بمجرد ذكر كلمة "رزق" تذهب أذهان الكثيرين مباشرة إلى المال والأولاد ومتاع الدنيا.
لأن كل إنسان يرى سعادته في رزق معين، فمن الناس من يرى سعادته في المال،
ومنهم من يرى سعادته في الأولاد،...
والرزق في الحقيقة تتنوع أصنافه، وتتعدد وتختلف صوره، فمنه الحسي كالمال والأولاد
والزوجة والأملاك والعقارات والمناصب العليا، ومنه المعنوي كالعلم والرضا والسعادة
وراحة البال والصحة.
هذه أرزاق يطلبها ويريدها كل إنسان، لكن الرزق الأعظم الذي ما بعده رزق، هو
" حياة القلب" فبدون قلب ينبض بالإيمان، يملؤه حب الله ورضاه، يستنير بأنواره
ويستقي من مورد رسوله صلى الله عليه وسلم، لن يحصل الإنسان على سعادته
وإن تدفقت عليه الأرزاق من كل جانب.
القلب هو مكمن وسر السعادة في الدنيا والآخرة( يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من
أتى الله بقلب سليم) كما قال عز من قائل، فإن صح وسلم فهو أعظم رزق أنعم
الله به عليك، يستوجب منك الشكر لله سبحانه وتعالى.
في حديث رواه الشيخان وغيرهما عن النعمان بن بشيرأن رسول الله صلى الله عليه
وسلم قال:" ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد
الجسد كله ألا وهي القلب".
قلبك سر سعادتك، قلبك حياتك، قلبك رزقك الذي ما بعده رزق، قلبك زادك للآخرة،
فاجعله ينبض بالحياة والإيمان.
حتى ينبض قلبك إيمانا
النبضة الأولى: محبة الله عز وجل ورسوله الكريم
المحبة التي تلم شعث القلب وتشبع جوعته وتغنيه من فقره وتجعله حيا، هي محبته
سبحانه وتعالى ومحبة نبيه صلى الله عليه وسلم، إذ لا يسر القلب ولا يفلح ولا
يسكن ويطمئن إلا إذا ارتبط صاحبه ارتباطا وثيقا بالله عز وجل وبرسوله الكريم. يعبده
ولا يشرك به، يتبع سنة الحبيب المصطفى وينهل من مورده العذب، ولا يحيد عن
طريقه.
إن المتبصر في حال القلوب يجد رزقها يزيد، طالما ارتبطت بالله واعتصمت به. فالمرء
إن ربط قلبه بالله هانت عليه الدنيا وزاد إيمانه وغمره فضل الله. فلا يفقد شيئا
طالما أن الله معه.
النبضة الثانية: المحافظة على الصلوات
تلك هي الخيط الرابط بين العبد وربه، إذا واظب الإنسان على أدائها بخشوع كانت له
نبراسا ونورا في طريقه، يتخشع القلب ويزيد ارتباطا بالله تعالى كلما استقبل صاحبه
القبلة مكبرا المولى عز وجل، متذللا بين يديه، مطمئنا.
في حديث لأبي هريرة نأخذ قصة الرجل الذي أشار عليه النبي صلى الله عليه وسلم
للمرة الثالثة بأن يعيد صلاته بقوله:"ارجع فصل فإنك لم تصل" لأن هذا الرجل لم يحقق
المقصود من الصلاة،قال له النبي عليه أزكى الصلاة والسلام:"إذا قمت إلى الصلاة
فأصبغ الوضوء ثم استقبل القبلة فكبر ثم اقرأ بما تيسر معك من القرآن ثم اركع حتى
تطمئن راكعا ثم ارفع حتى تستوي قائما..." فإذا لم تحصل الطمأنينة والخشوع،
فنبض الإيمان لن يحرك القلب.
النبضة الثالثة: ذكر الله عز وجل
يقول الله عز وجل( الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم ألا بِذِكْر الله تَطْمَئنّ القُلُوبُ)، وفي
حديث رواه الإمام البخاري عن أبي موسى الأشعري يقول الرسول صلى الله عليه
وسلم:" مثل الذي يذكر ربه والذي لا يذكر ربه مثل الحي والميت" ذكر الله هو الأمر
الأكبر والاعظم الذي من أجله شرعت العبادات، والاطمئنان به هو سر حياة القلب
ودوام نبضه بالإيمان، فلا بأس أن يكون عقب كل صلاة وأثناء مزاولة أي عمل، بل
وفي كل حين ولحظة حتى يصبح اللسان رطبا بذكر الله والقلب غير غافل عن مولاه.
النبضة الرابعة: قراءة القرآن
يقول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث رواه الإمام مسلم:" اقرأوا القرآن فإنه
يأتي يوم القيامة شفيعا لأصحابه" وفي حديث آخر: " مثل المؤمن الذي يقرأ القرآن
مثل الأترجة ريحها طيب وطعمها طيب".
قراءة القرآن بتدبر وخشوع تزيد القلب إيمانا وخشوعا.
النبضة الخامسة: حب الخير للناس
من الإيمان أن يحب المسلم لأخيه ما يحب لنفسه، ففي حديث رواه الإمام البخاري
أن النبي صلى اللع عليه وسلم قال لايؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه).
إن أعظم عذاب من الله في الدنيا للمجرمين هو قساوة القلوب، نسأل الله اللطف
والعافية.
فحينما يحرم القلب رزقه من المشاعر والأحاسيس الفاضلة تنعدم فيه نوازع الخير
وتنضب فيه منابع الهدى، فلا يتحرك لنداء ولا يستجيب لدعوة، ويحال بينه وبين صاحبه:
{يا أيُها الذين آمنوا اسْتَجِيبُواْ لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ يَحُولُ
بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} (الأنفال: 24). وحينئذٍ يقسو القلب، ويتحجر حتى
يصير أشد قسوة من الحجارة نفسها: {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ
أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً} (البقرة: 74)
وما رزق النبي صلى الله عليه وسلم هذا الرزق الواسع من القلوب إلا بمحبة الله له،
ومعونته له على كسب قلوب الناس والتأثير فيهم، ثم بصبره الواسع المتين ورأفته
ورحمته بهم، وحكمته التي جعلته أرعى لحالهم منهم وأبصر بأمرهم من أنفسهم.
فالقلب الجاف لا ينشىء جدولا والقلب البارد لا يشعل ناراً، وما خرج من القلب وصل
إلى القلب، وما خرج من اللسان لم يجاوز الآذان. إن كان هذا طريق القلوب،
فسر فيه ليزداد رزق قلبك وينبض إيمانا.
نعمة القلب تستحق الشكر
إن من رزق الله تعالى ووافر نعمته أن يرزقك قلبا ينبض بحب الله وحب رسوله، وحب
الخير للناس، قلب يرحم الضعيف ويئن لأنين المساكين، يحب الصغار، ويرسل إشارته
لليدين لتتحركا بلمسة حانية على رأس يتيم، أو صدقة ضئيلة لجيب مسكين، فتضع
البسمة على شفتيه، طالما عاشرها الحزن وقست عليها الأيام. إنها نعمة تستحق
الشكر الكبير لله عز وجل.
اللهم ارزقنا قلبا خاشعا يخشاك في السر والعلن.آمين آمين آمين .